مقالات وكتابات


الأربعاء - 31 يناير 2018 - الساعة 05:47 م

كُتب بواسطة : سعيد النخعي - ارشيف الكاتب


كلما نظرت إلى صفحات التاريخ لا أرى إلا سوادا ! وكلما أمعنت النظر في حقبة من حقب الزمان وجدتها ملتحفة بالسواد ... فجمعت شهادات حقب الزمان عن سبب ماكان بالأمس ، وماهو كائن اليوم ؛ فاجمعت كلها على خلل الذات الأدمية نفسها ؛ خلل يشبه إلى حد بعيد الخلل المصنعي الذي لاتستطيع معه الآلة أن تؤدي عملها مالم يعاد ضبط المصنع.

لأبد من إعادة ضبط المصنع للآدمية الجنوبية حتى تتوقّف عن تدمير ذاتها ، فالمأسي نتاج للسلوك البشري ولّدته لحظة حقد على حين غفلة من سلطان العقل والضمير .

لابد من إعادة ضبط المصنع فأفعال الذات الجنوبية تدل أن هناك خلل أصيل في الذات البشرية نفسها وليس خطأ سلوكيا طارئا كتلك الأخطاء التي تعتور سلوك الأفراد من بني البشر في أي بقعة من العالم ؛ فما يحدث هناك عبارة عن لحظة نادرة في حياة الأفراد والشعوب كندرة الظواهر الكونية العابرة ؛ بل إن ندرة حدوثها في هذه المجتمعات تجاوزت عدد سنين مذنب هالي الست والسبعين خريفا .

لابد من إعادة ضبط المصنع لأن الأرض لاتنبت الحرائق ولكن سلوك الإنسان هو من يذكيها ، فكسا بأفعاله الأرض بالسواد وغطى به أديمها ، فاستوطنت الثقافة السوداوية النفوس فكان نتاجها سوداويا .

لابد من إعادة ضبط المصنع حتى لانستمر في حزّ الرؤوس ، وتمزيق الأشلاء ، وسفك الدماء البريئة على عتبات محراب الضغينة .

لابد من إعادة ضبط المصنع لكي نتوقف عن اللعب في وحل الردى الذي نغادره جميعا في هيئة رثة ، ونفوس قذرة .

لابد من إعاد ضبط المصنع لكي نوقف استنساخ المشاريع المشوهة ، وتناسل الجرائم على رأس كل حقبة ، حتى غدا تاريخنا حلقات متشابهة كالسنسلة التي يصعب التمييز بين حلقاتها .

لابد من إعادة ضبط المصنع لوقف شلال المآسي ، و استبدال ذاكرة الموت بذاكرة الحياة ، فذاكرة الموت لاتزال مسيطرة على عقولنا ووجداننا فتدفع جوارحنا دفعا لحز رؤوس بعضنا ، ثم نرقص طربا على الجثث المتفحمة ، والدماء المراقة ، نبذر تراب الوطن الأسود بجماجم الأبرياء ، ونسقيها من دمائهم ، وتتولّى رعايتها أنات الأيتام والأرامل ، وتتعهدها كلما ذبلت دعوات المظلومين ، فيقوى عودها ، وتثمر أغصانها مأس وأحزانا حتى إذا ما أقبل موسم الحصاد على رأس الحقبة المقبلة فاق إنتاجها عشرة أضعاف الحقبة التي قبلها .

لابد من إعادة ضبط المصنع حتى لايدور الزمن دورته فيجدنا في نفس الزاوية الضيقة التي لاتتسع لأكثر من منطقة أو قبيلة ؛ بعد أن تركنا فضاء الله الفسيح؛ لنتزاحم على الولوج من الكوة الصغيرة التي مات أبي وأبيك على وجهها؛ فتلقتهم حوافر المتزاحمين فطحنتهم طحن الرحى ؛ ليعود بأبي من بقي من أفراد قبيلتي محمولا كما عاد من بقي من أفراد منطقتك بأبيك !
فهل لازلت تتذكر اللحظة التي وضع القوم فيها أباك متوسدا يمينه أمام أمك وإخواتك الصغار ؟ الذين كانوا يرمقون جثة أبيك بطرف خائف ومقل يملاؤها الخوف والدموع ، قبل أن يشنف المتحلّقون حول الجثة آذان المرأة المكلومة بعبارة القي نظرة الوداع على زوجك ، واستقبلي سنين البؤس ، واستعيني عليها بأهات النحيب والحرمان .

سعيد النخعي
عدن 31/ يناير /2018م