مقالات وكتابات


الجمعة - 03 سبتمبر 2021 - الساعة 08:26 م

كُتب بواسطة : جمال أبوبكر السقاف - ارشيف الكاتب



يتوفى أناس وأقاربهم عنهم بعيدون، بل (مبعدون)، ويُزف لهم قريب وهم كذلك، آلام وآمال، وأفراح وأحزان، تمنوا لو شاركوهم تلك اللحظات، ولكن هيهات.
أحسست وأنا أرقب ذلك، بغصة ومرارة تنتابني، وشعور بالضيم والقهر يغمرني، وعرفت سر دعاء النبي- صلى الله عليه وسلم- " وأعوذ بك من قهر الرجال"
وتذكرت كم تتردد آيات القرآن على مسامعنا كثيرا، ولا نقف مليا عندها، لكن ما إن تلامس تلك الآيات حادثة تمر بنا أو واقعة نعيشها، حتى ننتبه وكأنما أنزلت تلك اللحظة، فنستشعر معانيها ونستحضر مدلولاتها، وذلك أن آيات القرآن كانت تتنزل على نبينا-صلى الله عليه وسلم- تسليه تارة، وتبشره تارة، وتصبره أخرى، وهكذا كانت حكمة نزول القرآن منجما.
وكلما قرأت أو سمعت قوله تعالى:(وَإِذۡ یَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لِیُثۡبِتُوكَ أَوۡ یَقۡتُلُوكَ أَوۡ یُخۡرِجُوكَۚ وَیَمۡكُرُونَ وَیَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَیۡرُ ٱلۡمَـٰكِرِینَ)
[سورة الأنفال 30]
انتابني ذلك الشعور بالقهر، وذلك اني أحد المبعدين الذين يعيشون في المهجر حياة مستقرة- ولله الحمد- ومع ذاك لم تُنسنا مرارة البعد، وقهر الحرمان، وفراق الأهل والخلان، وفقد الحرية والتعرض للهوان.
فكيف بمن أبعدوا، ولم يجدوا إلا الأرض فراشا، والسماء لحافا.
إن المغترب طوعا، ليعيش مشاعر اللوعة والفراق، والبعد عن الأحبة والإخوان، فتنغص تلك الأحاسيس عيشه، ولو كان في أحسن حال، فكيف بالمبعد قسرا؟
ماكنت أتصور أن يكون التهجير قرين الاغتيال والاعتقال، إلا حين لمسناه، ورأيناه في أعين المبعدين، بل إن الاغتيال أهون منه بكثير، فالمُهجّر يتعرض لألوان من الذلة والصغار، ولربما تمنى أن لو مات أو اغتيل ليرتاح من تلك المشاعر المؤلمة.
لقد أحسست بآهات ومرارات ما اعتلج بصدر النبي-صلى الله عليه وسلم- بأبي وأمي هو، وكأنني أرى تعابير وجهه، ونبضات قلبه، وهو يقول لورقة بن نوفل" أو مخرجي هم؟" كان استفسارا تعجبيا، مليئا بالمرارة والقهر، ولما يحصل بعد، وحين أخرج- صلى الله عليه وسلم- شعرت بتلك الحرارة تنبع من زفراته، وبين ثنايا كلماته"
وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ؛ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ)صحيح الترمذي للألباني.
إنه التهجير والإبعاد والنزوح أيها الأحبة، لن يشعر به حقيقة إلا من اكتوى به، وتجرع غصصه وألآمه.
كم هو مؤلم أن يموت لك عزيز، لم تحظ بنظرة لوداعه، وكم هو محزن أن يزف لك قريب، ولم تنعم بقربه.
إنها الحياة التي تعلمنا الكثير والكثير، وتترك في وجوهنا آثارها، فتارة تبكينا، وأخرى تسلينا، وهذه سننها التي من تدبرها، عاش فيها بلاغا إلى حين.

وإن ضاقت عليك الأرض يوماً**
وبت تئن من دنياك قهراً
فرب الكون ما أبكاك إلا**
لتعلم أن بعد العسر يسرا