مقالات وكتابات


الأربعاء - 30 سبتمبر 2020 - الساعة 02:39 ص

كُتب بواسطة : علي ناصر محمد - ارشيف الكاتب



عبر تاريخي الطويل، ارتبطتُ بعلاقات شخصيّة ورسميّة ووديّة بعدد من قادة دولة الكويت ورجالاتها، وفي مقدّمتهم الأمير صباح السالم الصباح والأمير جابر الأحمد الصباح والأمير سعد العبد الله الصباح والشيخ صباح الأحمد الصباح أمير الكويت، الذي تلقّينا اليوم ببالغ الأسى والحزن نبأ وفاته، بعد مسيرة طويلة حافلة، كان خلالها بحق مهندس السياسة الكويتيّة الداخليّة والخارجيّة على كافّة الساحات الخليجيّة والعربيّة والدوليّةْ.
وعلاقتي بقادة الكويت بدأت منذ 11 مايو 1974م، حين قمتُ بزيارتي الأولى لدولة الكويت، كرئيس للوزراء، وذلك بدعوة من الشيخ جابر الأحمد الصباح ولي العهد وقتذاك. وقد ارتبطتُ به بعد ذلك بعلاقات رسميّة وشخصيّة حين أصبح أميراً للكويت وأصبحت رئيساً لليمن الديمقراطيّة.
ثم زرتُ الكويت أكثر من مرة بعد ذلك..
وفي فبراير 1981م، أقمنا للأمير الشيخ جابر استقبال رسمي وشعبي حافل في زيارته إلى عدن (تلبية لدعوتي له في مؤتمر القمّة الإسلامي في الطائف في العام نفسه)..
كانت أوّل زيارة يقوم بها أمير كويتي لنا، وثاني مسؤول خليجي كبير بعد صاحب السمو الشيخ زايد، في وقت كنّا قد بدأنا فيه بإرساء التفاهم الأخوي مع بقيّة دول المنطقة بمساعدة الجهود الكويتيّة وفي المقدمة وزير الخارجيّة الشيخ صباح الأحمد، وكان ذلك منطقياً، فالكويت- بما يربطنا بها من أواصر ومشاعر- كانت تمثّل أفضل جسر يصل علاقاتنا مع بقيّة دول الخليج والجزيرة. وعرفاناً بهذا الدور، وتقديراً لإسهاماته في توطيد علاقات الشعبين اليمني والكويتي، منحنا الشيخ جابر الأحمد الصباح أمير الكويت، في تلك الزيارة، أعلى وسام في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وسام ثورة «14 أكتوبر»، وقدّم الأمير لعدن تمويل مشروع طريق عدن الدائري، الذي يبدأ من جولد مور وينتهي بمعاشيق رابطاً المدينة بشواطئها.. وكان ذلك بمبادرة كريمة منه، فقد كنّا قد اتخذنا قراراً أن لا نقدّم له أيّ مشروع أو طلب خلال زيارته لنا..
وتاريخ العلاقة بين عدن والكويت قديم.. قبل القرن الثامن عشر حين كان البحارة الكويتيّون يطوفون البحار بسفنهم الشراعيّة التي تسمى «البوم» بحثاً عن الرزق واللؤلؤ، ويرسون في الموانئ اليمنيّة الجنوبيّة، حيث كانوا يُستقبلون بحبّ وهم يبيعون أشياءهم للسكان المحليين، وكان بعضهم يعيش في عدن..
وبعد اكتشاف النفط في الكويت، أصبحتْ -بالرغم من صغر مساحتها- دولة غنيّة ومؤثّرة في منطقة الخليج سياسياً واقتصادياً وثقافياً. فانعكست الآيّة، وصار يمنيّو الجنوب هم الذين يذهبون أو يهاجرون إلى الكويت، وخاصّة أبناء حضرموت والمهرة وعدن.. بحثاً عن فرص العمل والدراسة والثروة، لا سيّما أنّ علاقة اليمني بالكويتي لم تكن علاقة عامل بربّ عمله فحسب، بل حملتْ أبعاداً إنسانيّة وحضاريّة بتأثيرات الدين والثقافة والفن والسياسة وغيرها. حتّى أنّ الشيخ جابر الأحمد الصباح قال لي ذات مرّة:" كنّا نؤمّن الحضارم على أموالنا والمهريين على أهلنا لأمانتهم وثقتنا بهم".. ولذلك لم يكن غريباً أن يكون الشعب الكويتي أوّل من وقف إلى جانب الثورة والدولة في اليمن الديمقراطيّة.. وأن تُقدّم الكويت إلى الدولة الوليدة منح سنويّة على هيئة مدارس ومستشفيات، و174 مشروع حتى قيام الوحدة عام 1990م، ممولة من «الهيئة العامة للجنوب والخليج العربي» التي كان يرأسها الأستاذ أحمد السقاف، وكانت مرتبطة بوزير الخارجيّة آنذاك فقيدنا اليوم الشيخ صباح الأحمد، الذي اعتدتُ أن ألتقي به في الكويت وعدن وفي المؤتمرات الإقليميّة والدوليّة.
كان لا يكلّ ولا يملّ من النشاط السياسي والدبلوماسي، حاملاً حقيبته متنقّلاً بين الكويت والدول العربيّة، حالما يبدأ أيّ صراع في المنطقة.
فالكويت التي اتخذتْ سياسة متوازنة من الصراعات الإقليميّة والدوليّة دون التدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدول وحظيتْ باهتمام واحترام كافّة الدول والشعوب.. أصبحت عاصمة للوساطات السياسيّة بين الأطراف المتنازعة، كما في الحروب بين الملكيين والجمهوريين وبين الشمال والجنوب في اليمن، والصراع بين أثيوبيا وأريتيريا وكذلك بين أثيوبيا والسودان وغيرها.
 ولعب الشيخ صباح رحمه الله دوراً في تطوير علاقات اليمن مع الكويت ودول المنطقة، وتطبيع العلاقات مع سلطنة عمان، وكذلك في التوسّط لوقف الحروب بين الشمال والجنوب، كما طالب -مع الشيخ جابر- برفع العقوبات عن نظام عدن أثناء قمّة بغداد، حيث كانت عضويّة اليمن الديمقراطيّة معلّقة بسبب أحداث عام 1978م، وهو من سعى قبلاً للاكتفاء بتعليق العضويّة بينما كان بعض وزراء الخارجيّة يطالبون بفصل اليمن الديمقراطي من الجامعة العربيّة.. ثم زارنا في عدن عام 1979م للتوسط في الحرب التي اندلعت بين الجنوب والشمال، أثر اغتيال الرئيس الغشمي رئيس النظام في صنعاء حينها بحقيبة دبلوماسية.
كان الصباح يومها ضمن وفد الجامعة العربيّة برئاسة أمينها العام محمود رياض، وكنتُ نائباً للرئيس، والتحقت متأخراً بالاجتماع بين وفد الجامعة والرئيس عبد الفتاح إسماعيل، إذ كنتُ عائداً من مهمّة خارج عدن..
من المطار توجّهت مباشرة الى مقرّ الرئاسة في التواهي.. دخلت وألقيتُ عليهم السلام، وحرص مرافقي قبل انسحابه
على وضع حقيبة يدي الشخصيّة قربي..
بادرني الشيخ الصباح الذي كان معروفاً بسرعة بديهته وطرافة سخريته مازحاً، وهو يرمق الحقيبة متظاهراً بالارتياب:
"لن نتكلّم إلا إذا أخرجتم الشنطة! "
فأشرتُ إلى أحد المرافقين لإخراج الحقيبة، وسط عاصفة الضحك التي أثارها تعليقه الطريف..  ونجحتْ تلك الوساطة لوقف الحرب، ووقع الرئيسان علي عبد الله صالح وعبد الفتاح إسماعيل اتفاق الكويت في 1979..
ومرّة أخرى سعى الأمير الدبلوماسي للصلح اليمني في عام 2016م، حين استقبل أطراف الصراع في اليمن لمدة ثلاثة أشهر في الكويت، لكن للأسف انتهت باتفاق اليمنيّين على ألا يتفقوا، مؤكدين على نيّتهم مواصلة الحوار لحلّ الأزمة ووقف الحرب التي لم تنتهي حتّى اليوم في سبتمبر 2020م...
بوفاة الأمير الصباح فقدتُ صديقاً عزيزاً، وفقدت اليمن والمنطقة العربيّة رجلا حكيما وذكيّاً وإنساناً كبيراً أفنى حياته في خدمة الشعب الكويتي والأمة العربيّة والإسلاميّة وفي المقدمة قضيّة فلسطين..
خسارة تزيد فداحتها في هذه الظروف الصعبة التي تزداد فيها الحاجة لقادة متميّزين من أمثاله...
تعازينا الحارّة لآل الصباح والشعب الكويتي الشقيق وللأمة العربيّة..